حب الكمال والمثاليه
يعد حب الكمال أو الظهور بصورة مثالية أو التصرف المثالي من إحدى السمات التي يتصف بها الأطفال الموهوبين، وينظر الآباء والمختصون في حقل التعليم إلى تلك السمة من منطلقات مختلفة، حيث تتباين آرائهم حول الآثار السلبية الناجمة عن سعي الأطفال الموهوبين نحو الكمال في مستويات الإنجاز.
وبقدر ما يختلف مفهوم الكمال من شخص إلى آخر ومن تربوي إلى آخر، فإن الكثير من البحوث أثبتت أن للكمال نوعين: المثالية ذاتية التوجه، والمثالية المكتسبة اجتماعيا، ومن أبرز سمات صاحب المثالية ذاتية التوجه من الموهوبين، أنه يضع لنفسه معايير شخصية عالية، ويقيّم أدائه الشخصي مقابل هذه المعايير، كما أنه قد يكون شديد الانتقاد لعمله الشخصي، الأمر الذي يجعله متوتراً و مضطرباً في كثير من الأحيان. ومن ناحية أخرى، فإن المثالية المكتسبة اجتماعيا، تظهر لدى الطالب الذي يعي بأن أهميته الشخصية مكتسبة من المجتمع المحيط به، لذا فإنه يسعى إلى أن تُحَقق المعايير التي يقيّم بها نفسه رضا أفراد المجتمع الذي يعيش فيه، وقد يميل الطالب صاحب هذا التوجه إلى الانطواء والميول السلبية والعجز المكتسب.
إن هذه الأنواع من الكمال السابقة الذكر، تتطور تبعاً لمؤثرات واستراتيجيات معينة، فمنها ما يتطور بشكل سلبي، ومنها ما يتخذ منحنى إيجابي، وذلك حين تكون المثالية محفزاً لهؤلاء الأطفال نحو مزيد من النجاح والإنجاز والإبداع. وحين تقترن المثالية بصفة لوم النفس عند الفرد، فإنه يميل لمحاسبة نفسه بشكل قاس عند الفشل وتكسبه عادة التسويف والمماطلة، وتجنبه التحديات، وتجعله يتخذ أسلوب التعميم المفرط للفشل. بناءً على ما سبق فإن المثالية هنا تُعد صفة سلبية تعيق صاحبها وقد تمنعه عن النجاح الذي تؤهله موهبته للحصول عليه. وبالتالي فإن الحاجة إلى تحقيق الكمال في مثل هذه الحالات قد تؤدي إلى الشعور بالقلق والاكتئاب وصعوبة تكوين علاقات آمنة وسليمة.
هناك الكثير من الطلبة الموهوبين الذين يحققون درجات عالية على "مقاييس الكمال الموجه ذاتياً" يعزون ذلك التفوق إلى ثلاثة عوامل: الوالدين والمنهج الدراسي وشخصياتهم. ولكن في حقيقة الأمر إن حاجة هؤلاء الأطفال للكمال تنبع من ذواتهم، وليست كما يعتقدون أنها من آبائهم ومناهجهم الدراسية. ولقد أشار الكثير من هؤلاء الأطفال أنهم يضعون لأنفسهم مقاييس وأهداف واقعية، هدفها تحسين الأداء والإبداع أكثر من سعيهم وراء الكمال، كما أشاروا بأنهم يستفيدون كثيراً من الاستماع إلى الأخصائيين بالمدارس والمعلمين، وكذلك إلى زملائهم الذين يشاركونهم نفس الميول.
هذا و نجد أن مشكلة المثالية التي تواجه الموهوبين، تعود إلى حقيقة عدم مواجهتهم للفشل في مرحلة المدرسة الابتدائية، حيث لم يواجهوا أي صعوبة، ولم يبذلوا أي جهد في تحقيق أعلى الدرجات في المرحلة الابتدائية. كما أن النجاح الذي يحققونه في المدرسة الابتدائية ساعد في جعل كل مقاييس أدائهم قائمة على الكمال. ولكن يتغير هذا التوجه تماماً في مرحلة الثانوية، حيث أن الطالب يتعرض للفشل في مواجهة المنهج الدراسي الذي يحتاج إلى الكثير من الجهد نظراً لصعوبة المنهج، فيصبح الطالب بالتالي عرضة للفشل لأنه يجد نفسه غير قادر على التصالح مع ذلك الفشل والتعايش معه، في الوقت الذي يجد فيه أنه مطالبا بجهد مضاعف للمحافظة على درجاته الكاملة التي كان يحصل عليها بسهولة في المرحلة الابتدائية، في مثل هذه الحالة نجد أن الطالب الموهوب يفضل لو كان المنهج الدراسي صعباً في المرحلة الابتدائية بالقدر الذي يؤهله للتعايش مع الفشل ومواجهته ومن ثم المضي في المراحل الدراسية المتقدمة بشكل أيسر وأسهل.
وتقع المسؤولية في وجود هذه المشكلة (المثالية) على عاتق كل من الجهتين الآباء والمعلمين، حيث يجب على المعلم أن يتأكد من وجود منهج دراسي مناسب يشكل تحدياً لكل طالب مع اختلاف مستوياتهم، وعند حدوث الفشل -والفشل بالنسبة للطلاب الموهوبين يعني الحصول على الدرجة b بدلا عن a – يتحتم على المدرسين اغتنام هذه الفرصة لتعليم الطلاب كيفية الاستفادة من أخطائهم وجعل تلك التجربة هادياً لهم في المستقبل.
من ناحية أخرى، يجب على الوالدين إتاحة الفرصة لأبنائهم "للخروج من قوقعة الكمال التي يعيشون فيها" ومحاولة القيام بنشاطات لا يضمنون النجاح فيها، فتعريض الأطفال لنشاطات متعددة يجعلهم يدركون أنه ليس بالإمكان للشخص أن يكون كاملاً في كل الحالات، وأن الآخرين لا يتوقعون منه ذلك. ويمكن للآباء استغلال مثل هذه الفرص لمراقبة مواقف أطفالهم تجاه التحديات والفشل ودرجة ميلهم لتوجيه النقد واللوم لأنفسهم.
وبشكل عام، لا بد من تعريض الطفل الموهوب إلى خبرات من الفشل بين الحين والآخر، فمثلاً عندما ترتكب الأم خطأ مثل حرق الطعام، فإنه يجب عليها حينها أن تبين أنه من الطبيعي ارتكاب الأخطاء، كما يجب أن تبدي إحساسها ببعض الإحباط، وفي نفس الوقت يجب أن تبين الأم أن هذه أخطاء عادية لا يمكننا تجنبها، ولكن نستطيع أخذ الحيطة في المرات المقبلة، إما بالاستعداد عن طريق برمجة الموقد أو خفض درجة الحرارة من البداية. إن الموهوب الساعي للكمال في هذا الموقف سيستفيد من هذا الدرس وبهذه الطريقة المثلى، حيث سيتعلم التصالح مع مسألة ارتكاب الأخطاء والفشل وفهمها بشكل موضوعي بدلاً من الوقوع في حالات القلق ولوم النفس. كذلك يتعلم الموهوبين نماذج سلوكية قائمة على تلك المواقف بدلاً من وضع نماذج مثالية بعيدة عن الواقع.
أثبت الدراسات مؤخراً، بأن الأشخاص الذين لديهم ميول كمالية "مكتسبة اجتماعيا" يرون بأن سهولة المنهج الدراسي تشكل العامل الرئيسي لمثل هذه الميول، حيث يرى هؤلاء الطلاب أن توقعات الآباء وحرص الطلاب على رضاهم قد أسهم بدوره في توجههم نحو تحقيق الكمال.
قد يحتاج الآباء من حين لآخر إلى إعادة النظر فيما وضعوه من مقاييس لتقييم أداء أبنائهم، وإعادة النظر في أسلوب تواصلهم معهم، كأن يسألوا أنفسهم عن الأشياء الجيدة التي فعلها أطفالهم في ذلك اليوم وضرورة تقديم الثناء على الإنجاز وتوجيه كلمات التعزيز لأطفالهم.
ويعتبر التواصل والحوار بين الآباء والأبناء أمراً مهماً، لتحديد ما يجب إنجازه وبأي مستوى، فهذا يساعد على خلق علاقة تضامنية بين الآباء والأبناء، الأمر الذي يهيئّهم للعمل ضمن فريق واحد تحقيقا لهدف مشترك.
فكل ما يحتاج إليه الآباء والمدرسون هو التواصل المستمر مع الأطفال الموهوبين، بشكل يجعل هؤلاء الأطفال يدركون أن القبول ومشاعر الحب نحوهم لا ترتبط بما يحققونه من انجاز، بل يعتمد على الأساس الشخصي في تنمية ذواتهم. ويمكن للمدرسين المساعدة في إزالة ذلك الخوف من الفشل الذي يعتري أصحاب الكمالية الاجتماعية، وذلك بتكليف مثل هؤلاء الطلاب بعمل بحوث ودراسات لا يتم تقييمها بالدرجات، أو أنها تُقيّم على أساس التحسن الذي طرأ. كما يمكن للآباء المساعدة بإظهار مشاعر الحب تجاه أبنائهم بشكل لا يرتبط بالإنجاز، خاصةً عندما يدخل الطفل في عمل فيه الكثير من التحدي لقدراته، لأن هذا العمل الصعب المناط بهم يساعد أصحاب النزعة الكمالية المكتسبة اجتماعيا على إدراك أنه في حال عدم قيامهم بإنجاز فإن آبائهم ومدرسيهم لن يتراجعوا في حبهم واستمرارية دعمهم.
تحياتي الخاصه لكم جميعا