يروى عن محمد بن قدامة، قال: لقي بشر بن الحارث رجلًا سكران، فجعل السكران يقبله، ويقول: يا سيدي أبا نصر، ولا يدفعه بشر عن نفسه، فلما تولى تغرغرت عينا بشر بالدموع، وقال: رجل أحبّ رجلًا على خير توهّمه فيه، ولعل المحبّ قد نجا والمحبوب لا يدري ما حاله.
فوقف على أصحاب الفاكهة، فجعل ينظر، فقلت: يا أبا نصر، لعلك تشتهي من هذا شيئًا؟ قال: لا ولكن نظرت في هذا؛ إذا كان يطعم هذا لمن يعصيه، فكيف من يطيعه ماذا يطعمه في الجنة ويسقيه؟!..
إخواني: ما للغافل إلى كم ينام؟ أما توقظ الليالي والأيام؟ أين سكان القصور والخيام؟ دار والله عليهم كأس الحمام، فالتقطهم الموت كما يلتقط الحبّ الحمام. ما لمخلوق فيها دوام، طويت الصحف وجفت الأقلام.
وأنشدوا:
دعوني على نفسي أنوح وأندب *** بدمع غزير واكف يتصبب
دعوني على نفسي أنوح لأنني *** أخاف على نفسي الضعيفة تعطب
فمن لي إذا نادى المنادي بمن عصا *** إلى أين ألجأ أم إلى أين أذهب
فيا طول حزني ثم يا طول حسرتي *** إذا كنت في نار الجحيم أعذب
وقد ظهرت تلك القبائح كلها *** وقد قرّب الميزان والنار تلهب
ولكنني أرجو الاله لعله *** يحسن رجائي فيه لي يتوهب
ويدخلني دار الجنان بفضله *** فلا عمل أرجو به أتقرّب
سوى حب طه الهاشمي محمد *** وأصحابه والآل من قد ترهبوا
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى برجل يوم القيامة قد جمع المال من حلال وأنفقه في الحلال، فيقال له: قف للحساب، فيحاسب على كل حبة وذرة ودانق: من أين أخذه وفيما أنفقه) ثم قال صلى الله عليه وسلم: (يا ابن آدم، ما تصنع بالدنيا؟ حلالها حساب، وحرامها عقاب).
وأنشدوا:
فلا تأمن لذي الدنيا صلاحًا *** فإن صلاحها عين الفساد
ولا تفرح لمال تقتنيه *** فإنك فيه معكوس المراد
قال بعض العارفين رضي الله عنه: إن أبا يزيد البسطامي بكى عند موته، ثم ضحك، ثم فارق الدنيا، فرؤي في المنام بعد موته، فقيل له: لم بكيت قبل الموت ثم ضحكت؟ فقال: لما كنت في النزع، أتاني إبليس لعنة الله عليه، وقال لي: يا أبا يزيد، أفلتّ من شبكتي، فبكيت حينئذ إلى الله تعالى، فنزل عليّ ملك من السماء، وقال لي: يا أبا يزيد، يقول لك رب العزة: لا تخف ولا تحزن، وأبشر بالجنة، فضحكت عند ذلك، وفارقت الدنيا.
وأنشدوا:
وقفت وأجفاني تفيض دموعها *** وقلبي من خوف القطيعة هائم
وكل مسيء أوبقته ذنوبه *** ذليل حزين مطرق الطرف نادم
فيا رب ذنبي تعاظم قدره *** وأنت بما أشكو يا رب عالم
وأنت رؤوف بالعباد مهيمن *** حليم كريم واسع العفو راحم
يا أخي كم من يوم قطعته بالتسويف؟ وكم من سبب أضعت فيه التكليف، وكم أذن سمّاعة لا يزجرها التخويف؟.
ولما حضرت جابر بن زيد الوفاة قيل: ما تشتهي؟ قال: نظرة في وجه الحسن فبلغ ذلك الحسن، فجاء ودخل عليه، وقال له: يا جابر كيف تجدك؟ قال: أجد أمر الله غير مردود. يا أبا سعيد، حدثني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الحسن: يا جابر قال رسول الله صلى لله عليه وسلم: (المؤمن من الله على سبيل خير، إن تاب قبله، وإن استقال أقاله، وإن اعتذر إليه قبل اعتذاره، وعلامة قبول ذلك خروج روحه, يجد بردًا على قلبه). فقال جابر: الله أكبر! إني لأجد بردًا على قلبي. ثم قال: اللهم إن نفسي تطمع في ثوابك، فحقق ظني، وآمن خوفي وجزعي، ثم تشهّد ومات رضي الله عنه.
وكان سبب توبة داود الطائي أنه دخل المقبرة، فسمع امرأة عند قبر تبكي وتقول:
تزيد بلى في كل يوم وليلة *** وتسأل لما تبلى وأنت حبيب
مقيم إلى أن يبعث الله خلقه *** لقاؤك لا يرجى وأنت قريب