طالما فكرت بها وأنا طفل، بتلك الطيور التي تحمل أحلامها كلما حل الشتاء! لم أعلم أن اليوم هو آخر يوم لي على ضفاف هذا الشط العجيب.. عدت الى البيت بعدما سرق الظلام نور مدينتي، وخيّم مثل عباءة سوداء فوق مبانيها وأزقتها وأناسها.. سرت وأنا انظر لتلك الأشجار والشوراع التي شبعت من الحروب وأصوات القذائف .. أسمع صرخاتها بأذني … هي تصرخ .. نعم هي تصرخ.. تستغيث.. لكن لا أحد يسمعها سواي.. أنا الهائم وسط ضباب المكان!
سرب طيور آخر قادم من الجنوب.. يجبرني أن أنظر إليه، يجعلني أنسى خطورة الليل في مدينتي..
فجأة أسمع صوت عجلة السيارة تتوقف أمامي.. أنظر اليها برعبٍ .. سائقها يخرج رأسه راح يصرخ عليّ:
– هل أنت مجنون يا ابن ……..؟
– عذراً لم أنتبه!
اكتفى بنظرةٍ هازئة .. لم أهتم لها.. وابتسم
– أخفتني يارجل كدت أقتلك
– (ابتسمت) تقتلني…!
– هل أنت في مشكلة ؟
اكتفيت بهز رأسي يمينا يساراً ثم تابعت مسيري رافعاً رأسي للسماء لعلي أجد ضالتي حول تلك الطيور .. وسرعان ماضحكت هازئاً من نفسي وقلت:
– ها أنت يامجنون .. تركت كل تلك المشاكل التي تدور في بلدك وتفكر بطير مهاجر..
لم أعلم أني سأكون مثل تلك الطيور.. ولم أعلم أن اليوم هو آخر يوم أرى فيه شط العرب الذي تعودت دائماً أن أزوره وأكتب قصصي وأشعاري هناك فوق تلك التلة القريبة من مرسى الأبلام..
وصلت البيت.. قدماي تعبتا من السير.. دخلت غرفتي بعدما أشاع النور فيها.. رحت أنظر لوسادتي التي فارقتها طيلة أربعة أيام لأنني لم أر النوم منذ تلك الفترة ..
تقلبت كثيراً في الفراش، قلق ما ينتابني، وأرق غريب..
سمعت أمي تصرخ بصوت وهي تحدث أبي الذي هدّه الزمان ..
– أما تقوله صحيح؟
– نعم صحيح يا امرأة .. علينا أن نترك مدينتنا
– لماذا .. ؟
– كي نفسح المجال لكلابها لتعوي !
– لم افهم !!
– علينا أن نخرج وإلا سنصبح بعد غد في إحدى نفايات المدينة!
أمي تبكي وتلطم الخدود وأنا أتصور دموعها وحزنها
الآن فقط علمت أني سأصبح واحدا من تلك الطيور .. وسألحق بها علها تدلني لمأوى آخر.. لكن كيف سأترك مدينتي؟ أصدقائي وكليتي وأساتذتي .. كيف سأترك تلك النخيل .. ؟
خيم الحزن عليَّ وأظنها الليلة الخامسة التي لم أتذوق فيها طعم النوم..!
أحضرنا حقائبنا .. وشددنا الرحال .. لكني مازلت داخل غرفتي … أطلع على صور أصدقائي وابتساماتهم .. صور النخيل وشط العرب وتمثال السياب.. أعتقد أني سأترك همومي وأحلامي وأهدافي هنا..
لا أحد يسمعني منهم ..!!
خرجت من غرفتي وما زلت مكابراً كي لا يرى أبي دموعي .. خرجنا وكأننا طيور عزمت على الهجرة .. سنهجر كل شئ ..
نظرة أخيرة لهذه المدينة الحزينة شدتني وأنا أقول:
– لن يكون هناك لقاءا ولا وداعا.. فقط الحب الذي أحمله لكم .. لعلكم تسمعونني .. تذكرونني .. أرجوكم لا تنسوني .
سلمت يداك
انتظر جديدك
تقبل تحياتي