الإسلام دين الرحمة، ومن أعظم مظاهر رحمته أنه حَرَّمَ على المسلم أن يُعَذِّب أحدًا حتى نفسه، حتى لو كان هذا التعذيب في مجال العبادة؛ فالله عز وجل لا يرضى عن تحميل المسلم لنفسه مشقَّة فوق طاقته؛ قال تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147]؛ لذلك كان من ط³ظڈظ†ظ‘ظژط© الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يأمر المسلمين أن يترفَّقوا بأنفسهم؛ فقد روى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ، فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا: أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلاَ يَقْعُدَ، وَلاَ يَسْتَظِلَّ، وَلاَ يَتَكَلَّمَ، وَيَصُومَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ".
وقد وضح لنا في هذا الموقف الحدود الشرعيَّة لمسألة تعذيب النفس أو ط§ظ„ط±ظپظ‚ بها؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى أبا إسرائيل رضي الله عنه أن يفرض على نفسه ما ليس موجودًا في السُّنَّة؛ كطول القيام دون حاجة، أو الوقوف في الشمس، أو عدم الكلام؛ بينما أمره أن يُتمَّ صومه لأن أمر شرعي موجود في السُّنَّة؛ فهذا هو المعيار، فلا يفرضنَّ أحدٌ على نفسه عملاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى لو كانت نيَّته التقرُّب به إلى الله.
ومثل ذلك ما رواه مسلم عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَادَ رَجُلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَفَتَ فَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ كُنْتَ تَدْعُو بِشَيْءٍ أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ؟" قَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَقُولُ: اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الآخِرَةِ، فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "سُبْحَانَ اللهِ لاَ تُطِيقُهُ -أَوْ لاَ تَسْتَطِيعُهُ- أَفَلاَ قُلْتَ: اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ". قَالَ: فَدَعَا اللهَ لَهُ فَشَفَاهُ.
ومثله كذلك ما رواه البخاري عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ، قَالَ: "مَا بَالُ هَذَا؟"، قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ. قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ". وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ. وكان هذا في الحجِّ كما عرفنا من روايات أخرى، وهكذا وضحت لنا حدود السُّنَّة النبوية في هذا الأمر، فلْنرحم أنفسنا دون أن نُفَرِّط شيئًا في دين الله عز وجل.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].
د.راغب السرجاني
[/CENTER]