تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » لم يفلح كبار الأطباء في علاجه

لم يفلح كبار الأطباء في علاجه

غزة- خليجية

على وقع الأصوات التي دوَّت في المكان انتصبت من فراشي وسرعان ما توجهت إلى الشارع بعد أن فتحت بوابة المنزل بقوة لأُفاجأ بسيارتي إسعاف قد اتخذت من أمام بيتي وبيت الجيران "عائلة السويسي" مكاناً لها وهي تنتظر إنزال "الطفل الجريح" الذي هرعت من أجله تلك الإسعافات.

انقضت دقائق قليلة قبل أن ينزل الطفل مرفوعاً على حمالة بواسطة المسعفين وهو لا يحرك ساكناً أو يعرف ما يدور من حوله لحظة أن كان أحد المسعفين وأنا أحمل جزءاً من "الشيالة" يحاول ضخ الأكسجين يدوياً إلى صدر ذلك الطفل الذي لم تقدر له "النجاة" هذه المرة.

"ياسر السويسي" طفلٌ لم يتجاوز عمره الـ 14 ربيعاً، أصيب في أحداث الإنفلات الأمني الذي سبق أحداث يونيو/حزيران ( 2024 )( 2024 )( 2024 )( 2024 )، بطلقة نارية أفقدته مُتعة الطفولة، وظلَّ حبيس الفراش لمدة تزيد على ثلاثة أعوام متواصلة انتهت باستشهاده في أحد أقسام مستشفى الشفاء بعد مضاعفات بسيطة حصلت في جهاز التنفس لديه.

للقصة بداية !
بدا ذلك المساء من يوم الثلاثاء الموافق الخامس عشر من مايو/ أيار من عام ( 2024 )( 2024 )( 2024 )( 2024 )، عادياً تماماً حينما عاد ياسر برفقة والده "أحمد" عبر الطريق المؤدية لمنزله بعد أدائهما صلاة العشاء في مسجد الرضوان، كانت أصوات الرصاص أثناء لحظات عودة ياسر ووالده للبيت تُدوِّي في كل مكان، وتصاعدت وتيرتها وأصبح صوت أزيزها يُسمع قريباً ما دفع العابرين إلى الانحناء تزامناً مع ذلك الأزيز الذي ارتطم بجسم "ياسر" بعد أن استقرت رصاصة داخل عُنِقه أردته أرضاً على الفور..

ارتجف قلب والده الذي كان يهم بدخول منزله لحظة أن التفت لنجله "ياسر" ورآه ممدَّداً على الأرض ليعود أدراجه بسرعة بضع خطوات ليتسمر أمام نجله وهو غارقاً بدمائه التي غطت وجهه وملأت الأرض.

ثوان معدودة حتى غصَّ المكان بالناس بعد أن صدح والده وأعمامه "ياسر.. ياااااسر"، محاولين إيقاظ جثة هامدة أذبلتها رصاصة أصابت العنق، فيما انتشل أحد سكان المنطقة المصاب ياسر لينقله عبر سيارة إلى مستشفى الشفاء، وبمجرد وصوله غارقاً بدمائه إلى قسم الاستقبال تجمع ط§ظ„ط£ط·ط¨ط§ط، من حوله محاولين إسعافه بعد توقف النبض الذي عاد مجدداً ليغير قرارهم بنقله إلى ثلاجات الموتى، وشاء القدر أن تتحسن حالته آنذاك.

وقضى ياسر عدة أشهر في مستشفيات غزة قبل أن يتم تحويله إلى مستشفى "سروكا" داخل الأراضي المحتلة عام 48. إلا أن ط§ظ„ط£ط·ط¨ط§ط، الإسرائيليين الذين أشرفوا على حالته لم يتمكنوا من إخراج الطلقة النارية ليعود إلى قطاع غزة بعد أسابيع قليلة، وأصبحت حياته فيما بعد مرهونة بجهاز تنفس اصطناعي طيلة ثلاثة أعوام ونصف العام مرت قبل استشهاده.

أسير في بيته !
لم يعد ياسر يقوى على الحركة بعد أن أصابت الطلقة النارية العمود الفقري- الجهة العلوية- وتسببت في شلل كامل لجسده ومضاعفات في جهاز التنفس قبل أن تستقر في أسفل العنق.

مكث الطفل الجريح لأشهر طويلة داخل غُرفة في منزله كانت تشبه إلى حد بعيد حجرات المستشفيات وهو محاط بأرفف الأدوية وأجهزة التنفس الصناعية الكهربائية واليدوية التي لا يستطيع الاستغناء عنها كي يبقى على قيد الحياة.

وكانت أسرته تسعى جاهدة إلى إضفاء نوع من الحيوية على حياته محاولة تغيير جو الحزن والكآبة الذي حل به بعد أن أصبح حبيس الفراش والكرسي المتحرك المزود بجهاز تنفس اصطناعي. أمام بيته كان يجلس ونظراته البريئة تجول من حوله وهي تراقب "بحزن" الأطفال من سنه وهم يلعبون أمامه متأسفاً على أيامٍ وذكرياتٍ جميلة قضت نحبها.

ولم يكن أحد من المارة قد يعبر الطريق دون أن يلتفت إلى ذلك الطفل صاحب الوجه الطفولي والخدود الوردية، وكنت في أحد الأيام التي سبقت استشهاده قد جلست أمامه متأملاً براءته معجباً بسكونه شاعراً بآلام دارت رحاها داخل صدره الذي لا يقدر على استنشاق الهواء طبيعياً. وكان جهاز التنفس الصناعي يزود الشهيد ياسر بالهواء بشكل منتظم ومتناسب مع صغر سنه، فيما كان ذووه يلجؤون إلى ضخ الهواء يدوياً إلى صدره في ظل أزمة انقطاع التيار الكهربائي المتجددة في قطاع غزة إلى حين توفير البديل كمولدات الكهرباء.

ولازم جهاز التنفس الصناعي الشهيد السويسي أينما ذهب سواء داخل بيته أو أثناء تواجده في الشارع وهو يتخذ من كرسي متحرك مقعداً دائماً له خارج غرفته، فيما كان أحد أعمامه يحاول أن يرفه عن الطفل المُقعد من خلال التجول لمساحات محدودة في محيط منزله.

وتضاعفت معاناة الطفل المصاب مع تكرار انقطاع التيار الكهربائي الأمر الذي عرض حياته للموت، بينما عملت عائلته على توفير أكثر من مولد كهربائي لإيصال الهواء عبر جهاز التنفس الذي يعمل بالكهرباء، إلى أن بدأت رحلة علاجية جديدة في دولة مصر.

دون جدوى !
"قضيت أيامي في مصر متنقلاً بولدي بين المستشفيات".. بهذه الكلمات استهل أحمد السويسي وهو والد الشهيد حديثه حول الرحلة العلاجية لنجله ياسر والتي استغرقت عاماً كاملاً.

وأشرف على الطفل المصاب أثناء تواجده في المستشفيات المصرية كبار ط§ظ„ط£ط·ط¨ط§ط، كان من بنيهم أطباء مصريون وأجانب أحدهم بروفيسور أمريكي.

وقال والد الشهيد مستذكراً يوم أن كان مرافقاً لنجله في رحلته العلاجية: "بعد أن رأى ط§ظ„ط£ط·ط¨ط§ط، حالة ياسر، وعرفوا أن الطلقة النارية أصابت العمود الفقري والنخاع الشوكي، وتسببت بتخريب جهاز التنفس، قرروا أن يجروا له عمليه لزرع جهاز تنفس داخل صدره".

وكان الهدف من تلك العملية هو الاستغناء عن جهاز التنفس الذي لازم الطفل لما يزيد على ثلاثة أعوام متواصلة واستبداله بجهاز صغير يزرع داخل القفص الصدري فأجريت له العملية بعد بدء رحلته العلاجية بفترة قصيرة.
خليجية
وقضى فترة ط¹ظ„ط§ط¬ظ‡ عقب العملية الجراحية في مصر تحت مراقبة ط§ظ„ط£ط·ط¨ط§ط، الذين أجروا له العملية. ولكن هل تمكن الطفل من الاستغناء عن جهاز التنفس الذي يعمل بالكهرباء ؟!. أجاب والد الطفل قائلاً: "خضع ياسر لعمليات اختبار جهاز التنفس لديه، وذلك لمعرفة مقدرته على التنفس بواسطة الجهاز الجديد".

وأضاف والده وقد بدت معالم الحزن واضحة على قسمات وجهه: "في البداية كان يتم تشغيل جهاز التنفس لأوقات قصيرة جداً لا تتعدى الساعة، وباقي الوقت كان يتم تشغيل جهاز التنفس الذي يعمل بالكهرباء حفاظاً على استمرارية ضخ الأكسجين إلى صدره".

وهكذا قضى الجريح أيامه في مستشفيات مصر إلى أن أخبر ط§ظ„ط£ط·ط¨ط§ط، والده بفشل الجهاز الجديد في مواصلة عمله بشكل سليم بما يتناسب مع صغر سن الطفل ويحافظ على حياته المهددة بنقص الأكسجين.

بصمتٍ مرهف تقبل والد الطفل خبر فشل الجهاز الجديد وعدم قدرة ط§ظ„ط£ط·ط¨ط§ط، العرب والأجانب على إيجاد أي حل في المستشفات المصرية، ولم يحط ذلك من رغبة والد "ياسر" في إيجاد نوع من الترفيه لنجله قبل أن يرجع به إلى غزة.

وحرص والد الطفل على عدم اصطحاب نجله إلى أماكن الترفيه العائلية التي يصطحب بها الآباء والأمهات أبناءهم للترفيه عنهم، معللاً ذلك بالقول: "نفسية ياسر كانت تتأثر عندما يرى أطفال من سنه تلعب أمامه دون أن يقدر على السير لمشاركتهم".

عودة واستشهاد !
في الثاني من أكتوبر/ تشرين أول الجاري، عاد الطفل الجريح إلى غزة كما خرج منها برفقة والده، وتحققت رغبته في رؤية ذويه وأصدقائه وتهللت أساريره من جديد، كما قال والده.

وأشار والد ياسر إلى أن نجله عانى بعد عودته من مصر إلى غزة وقبل استشهاده بأيام من الضيق في التنفس لفترات محدودة ليعود إلى حالته الطبيعية بعد وقت قصير إلى أن جاء مساء يوم الاثنين الموافق الثامن عشر من أكتوبر الجاري.

كان ياسر فرحاً إلى حد أنه طلب من أصغر أعمامه وهو مصطفى، أن يشتري ما رغبت به نفسه، وكان الحديث بينهما يدور في ربع الساعة الأخير لحياة ياسر.

وما أن قرر مصطفى التوجه لأحد المحلات ليلبي طلب ابن أخيه، حتى أصيب ياسر فجأة بمضاعفات في جهاز التنفس، لم يلبث أن غاب عن الوعي تماماً.

مرت لحظات معدودة على ياسر قبل أن تصطف سيارتا الإسعاف في الشارع التي سرعان ما عادت به إلى مستشفى الشفاء بعد ما يزيد على ثلاثة أعوام من المعاناة، وقضى أنفاسه الأخيرة بين أيدي الأطباء، وتنهد ذلك المساء أنفاسه بالإعلان عن استشهاد "ياسر".

كثير من الآلام اعتملت خلجات قلوب أمه وأبيه وذويه أجمعين، وأصبحوا يرثون ابناً كان كالروح التي تمد الجسد بالحياة والتي اجتمعت فيها البراءة والأدب والأخلاق.

وما كان أمام عائلته سوى أن تلعق جراحها بصمتٍ شديد وتحمد ربها بعد فراق الحبيب الذي لم تُكتب له النجاة، وغابت ابتسامته التي كانت كمِشعَل البقاء الذي يضيء لذويه عتمة الأيام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.