وجاء عزل عقبة بن عامر وتعيين مسلمة بن مخلد الخزرجي الأنصاري بطريقة يتجلى فيها دهاء معاوية، وكونه خائفاً من أن يكون لعزل عقبة عواقب لا يحمدها، فقد قال معاوية لمسلمة أن يكتم أمر تعيينه، وأرسل إلى عقبة فجعله على البحر وأمره أن يغزو جزيرة رودس، فلما توجه سائراً، استوى مسلمة على سرير إمرته، فلما بلغ ذلك عقبة فقال: ما أنصفَنا أميرُ المؤمنين؛ عزلنا وغرَّبنا! والأمير الجديد مسلمة كان كذلك رجلاً صالحاً عابداً، حسن التلاوة لآيات الله، طويل الصلاة، زاد في مسجد عمرو بن العاص، وأمر ببناء منارات المساجد كلها، وأن يؤذن المؤذنون في الليل في وقت واحد، وتوفى وهو أميرها في سنة 62.
وعقبة بن عامر صحابي جليل، له فضل الهجرة والصحبة والسابقة، آمن بُعيد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتزم معه البقاء في المدينة، روى الإمام أبو جعفر الطحاوي في مشكل الآثار والطبراني في الأوسط عن عقبة قال: بلغني قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا في غنم لي أرعاها، فتركتها ثم أتيته، فقلت: جئت أبايعك، فقال: بيعةً أعرابية تريد أو بيعةَ هجرة؟قلت: بيعة هجرة، فبايعته، وأقمت.
ويبدو أنه مع إقامته كان يذهب في البادية مع أصحابه فعنه رضي الله عنه قال: جئت في اثني عشر راكباً حتى حللنا برسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال أصحابي: من يرعى لنا إبلنا، وننطلق فنقتبس من نبي الله صلى الله عليه وسلم فإذا راح ورحنا أقبسناه مما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ففعلت ذلك أياماً، ثم إني فكرت في نفسي، فقلت: لعلّي مغبون يسمع أصحابي ما لم أسمع، ويتعلمون ما لم أتعلم من نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، فحضرت يوماً، فسمعت رجلاً يقول: قال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: من توضأ وضوءاً كاملاً كان من خطيئته كيوم ولدته أمه.
فتعجبت لذلك؛ فقال عمر بن الخطاب: فكيف لو سمعت الكلام ط§ظ„ط£ظˆظ„ كنت أشد عجباً، فقلت: اردد عليّ جعلني الله فداك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات لا يشرك بالله شيئاً فتح الله له أبواب الجنة، يدخل من أيها شاء، ولها ثمانية أبواب.
قال: فخرج علينا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، فجلست مستقبله، فصرف وجهه عني، حتى فعل ذلك مراراً، فلما كانت الرابعة، قلت: يا نبيّ الله بأبي وأمي، لم تصرف وجهك عني؟ فأقبل عليّ فقال: واحدٌ أحبّ إليك أم اثنا عشر؟ فلما رأيت ذلك رجعت إلى أصحابي.
وكان عقبة فقيراً من أهل الصفة الذين كان أغلبهم لا يفارقون المسجد، وقد نذروا أنفسهم للعلم والذكر، وأقرهم على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل شجعهم على أن تكون مجالسهم لحفظ القرآن، فقد روى عقبة فقال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصّفّة فقال: أيّكم يحب أن يغدو إلى بطحان أو العقيق فيأتي كلّ يوم بناقتين كوماوين زهراوين يأخذهما من غير إثم ولا قطع رحم؟ قلنا: كلنا يحب ذلك يا رسول الله، قال: فلان يغدو أحدكم إلى المسجد، فيقرأ أو يتعلم آيتين خير له من ناقتين، وثلاثاً خير له من ثلاث، وأربعاً خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل.
وصار عقبة بن عامر صاحب بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الشهباء التي يقودها في الأسفار، وأتاحت له هذه المهمة الشريفة فرصة أن يرتوي من معين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتوشح بتوجيهه ويتسم بأدبه، روى الطبراني في الكبير عن عقبة قال: قدت برسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو على راحلته، رَتوة من الليل، وإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: أَنِخْ. فأنخت، فنزل عن راحلته ثم قال: اركب يا عقبة. فقلت: سبحان الله! أعلى مركبك يا رسول الله وعلى راحلتك؟! فأمرني فقال: اركب. فقلت أيضاً مثل ذلك، ورددت ذلك مراراً حتى خفت أن أعصي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فركبت راحلته ورحله، ثم زجر الناقة فقامت، ثم قادني رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم في نَقَب من النِّقاب، فقال: يا عقبة، ألا أعلمك سورتين من القرآن هما أفضل القرآن، أو من أفضله؟ فقلت: بلى، بأبي أنت وأمي، فعلمني المعوذتين، ثم قال: يا عقبة، إذا رأيت الفجر فأعلمني. فلما رأيت