ولد أبو معاوية الضرير سنة 113 في الكوفة، وعمي وهو صغير، في الرابعة أو الثامنة، فحزن أهله عليه كثيراً، وحفظ القرآن وأقبل على العلم في سن مبكرة، ولا تفيدنا المصادر المتاحة كثيراً عن أهله أو نشأته، إلا أن والده كان من رواة الحديث، فقد روى أبو معاوية عن أبيه عن عطاء بن أبي رباح حديثا واحدا.
جاء أبو معاوية إلى بغداد في طلب العلم وهو في الرابعة عشرة أو قبلها، وأخذ عن أبي حنيفة، وهو معدود في أصحابه، وكان يقول: حب أبي حنيفة من السنة. وتوجه أكثر من الفقه إلى رواية الحديث فأخذ عن هشام بن عروة بن ال.ر بن العوام المولود بالمدينة سنة 61 والمتوفى ببغداد سنة 146، وأخذ عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم ابن أمير المؤمنين عمر، المتوفى سنة 147، وأحد الفقهاء السبعة والعلماء الأثبات بالمدينة، وعن القاضي يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري النجاري، المولود بالمدينة والمتوفى بالعراق سنة 143، قال القاضي المحدث سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، المولود سنة 104 والمتوفى سنة 176: ما رأيت أقرب شبها بالزهري من يحيى بن سعيد، ولولاهما لذهب كثير من السنن. ولكن أهم مشايخه في الحديث كان الإمام المحدث الأعمش سليمان بن مهران الكوفي، المولود سنة 61 والمتوفى سنة 148، وكان محدثاً زاهداً ورأسا في العلم النافع والعمل الصالح، وقد لزمه 20 سنة حتى وفاته، وصار أهم وأمتن من حدث عنه.
وقد ظهرت على أبي معاوية علائم النبوغ منذ طلبه العلم، فقد ذكر زميله المحدث جرير بن عبد الحميد بن قرط الرازي الضبي، المولود سنة 110 والمتوفى سنة 188، والذي صار فيما بعد محدث الريِّ في عصره، قال: كنا نسمع الحديث عند الأعمش، ثم نخرج، فلا يكون أحد أحفظ منا لحديثه من أبي معاوية. وأثنى عليه شيخه الأعمش بشهادة المحدث الكبير أبي نعيم الفضل بن دكين، المولود سنة 130 والمتوفى سنة 219، الذي كان زميله في الأخذ عن الأعمش، قال أبو نعيم: سمعت الأعمش يقول لأبي معاوية: أما أنت فقد ربطت رأس كيسك.
وحفظ أبو معاوية عن الأعمش 1700 حديث ثم نسي بعضها بسبب مرض عرض له، قال يحيى يقول قال: أبو معاوية الضرير: حفظت من الأعمش ألفاً وستمئة، فمرضت مرضة فذهب عني منها أربعمئة، فكان عند أبي معاوية ألف ومئتان، كانت الأحاديث الكبار العالية عنده. وبالمقارنة مع محدث كبير معاصر أخذ عن الأعشى، هو وكيع بن الجراح، المولود سنة 129 والمتوفى سنة 179، فقد قال يحيى: وكان عند وكيع عن الأعمش ثمانمئة.
ويبدو أن أبا معاوية بدأ رواية حديث الأعمش في حياته كما ذكر المحدث يحيى بن سعيد القطان، وهو أمر ليس عجيباً، فقد كان الأعمش عسر التحديث، ذا مزاج متقلب صعب، وروى عن أبي معاوية خلق كثير، على رأسهم أئمة المحدثين كالإمام أحمد بن حنبل، والإمام يحيى بن معين، والإمام علي بن المديني، ويحيى بن سعيد القطان، ويحيى بن يحيى الليثي، وأبي بكر ابن أبي شيبة، وقد وثق الإمام أحمد بن حنبل أبا معاوية كما ذكر ذلك ابنه عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي ذكر أبا معاوية الضرير فقال: كان والله حافظاً للقرآن. وروى له أغلب مصنفي الصحاح والسنن، وعلى رأسهم الإمام البخاري رحمه الله تعالى، وروى عنه كثيراً في كتابه الموسوعي الطبقات الكبرى محمد بن سعد، المولود سنة 168 والمتوفى سنة 230.
ومن معاصري أبي معاوية من أئمة الحديث الإمام المحدث شعبة بن الحجاج المولود سنة 82 والمتوفى سنة 160، والذي قال عنه الإمام أحمد: هو أمة وحده في هذا الشأن. وكان شعبة على اختلاف السن والطبقة، يكرم أبا معاوية أمام طلبة الحديث وبخاصة الواردين من البلدان البعيدة الذين قد لا يعرفون أبا معاوية تمام المعرفة، قال أبو معاوية: كان أهل خراسان يجيئون فيسمعون من شعبة فيحدثهم عن الأعمش، فكان شعبة لا يحدثهم حتى يقعدني معه فيقول: يا أبا معاوية، أليس هو كذا وكذا؟ فإذا قلت: نعم. حدثهم، وكان يقول لهم: هذا صاحب الأعمش فاعرفوه.
وكان الإقبال على أبي معاوية من بين تلاميذ الأعمش الكثيرين لمتانة حفظه لأحاديث شيخه، وكان يتحدث بنعمة الله عليه فيقول: البصراء كانوا عيالا عليّ عند الأعمش. وقال أحمد بن عمر الوكيعي: ما أدركنا أحدا كان أعلم بأحاديث الأعمش من أبي معاوية. وكان في أصحاب الحديث من يقدمه في هذا الصدد على الإمام سفيان الثوري،سئل أحمد بن الحسن السكري: من أحب إليك في أصحاب الأعمش. قال: أبو معاوية أعرف به، وبعده الثوري، وبعده شعبة، والباقون بعد.
وبيّن أبو معاوية مصطلحه في روايته للحديث، وهو أمر مهم أعيا الحفاظ ضبطه في نسق واحد، قال أبو معاوية: كل حديث أقول فيه "حدَّثنا"، فهو ما حفظته من فِـيِّ المحدث، وما قلت: ذكر فلان، فهو ما لم أحفظه من فِيه، وقُرئ عليه من كتاب، فحفظته وعرفت