وأفضل الهدى هدى محمد صلى الله عليه و سلم، الذي أوتى جوامع الكلم وفواتحه وخواتمه (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى) "النجم:4"، فكما تجد الإعجاز في إيجاز الآيات البينات، كما في مثل قوله تعالى: (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ولا تَخَافِي ولا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) "القصص:7"، فكذلك الأمر في حديث النبي صلى الله عليه و سلم، تجد المعاني الكثيرة تصاغ في أوجز عبارة كما في حديث سفيان بن عبد الله: "قل أمنت بالله ثم استقم" وحديث "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"..
فإذا نظرت في كلام سلفنا الصالح ومن تابعهم بإحسان وجدت لكلامهم أوفر الحظ والنصيب مما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلماتهم مختصرة موجزة، معانيها كثيرة وفوائدها غزيرة ووفيرة, وذلك بعكس الكلمات التي نتكلم بها فقد لا تصفو على شئ رغم كثرتها، وإن صفت على معنى مفيد كان قليل البركة.. راقب نفسك فلسانك لا يكف عن القيل و القال, وكل ذلك ليس لله فيه نصيب، ولعل هذا المعنى هو الذي استلفت نظر البعض فسال أحد العلماء: لماذا كان كلام السلف انفع من كلامنا؟ قال العالم: لأنهم تكلموا لعز الإسلام ونجاة النفوس ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعز النفوس وطلباً للدنيا ولرضا الخلق.
لما سمع زين العابدين على بن الحسين موعظة للحسن، قال سبحان الله هذا كلام صديق.. قيل لعبد الواحد صاحب الحسن البصري: بأي شئ بلغ الحسن فيكم ما بلغ وكان فيكم علماء وفقهاء؟ قال: كان الحسن إذا أمر بشيء كان أعمل الناس به، وإذا نهى عن شئ كان أترك الناس له، عنايته بالرقائق والزهد فإن سأله إنسان غيرها تبرم وقال: "إنما خلونا مع إخواننا نتذاكر".
غالب مواعظه في ذم الدنيا والنهى عن طول الأمل والأمر بتزكية النفوس وتصحيح المقاصد والنيات، والوعاظ كانوا علماء فقهاء، قال الإمام احمد: ما أحوج الناس إلى قاص صدوق في الحديث، إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج لكم من بركات الأرض، قيل وما بركات الأرض، قال: زهرة الدنيا. ولذا كان الحسن يقول: والله ما عجبت من شئ كعجبي من رجل لا يحسب حب الدنيا من الكبائر، وايم الله إن حبها لمن أكبر الكبائر، وهل تشعبت الكبائر إلا من أجلها، وهل عبدت الأصنام وعصي الرحمن إلا لحب الدنيا، فالعارف لا يجزع من ذلها ولا ينافس بقربها ولا يأسى لبعدها.
كلماتهم كانت مباركة، وكلما اقتربنا من عهد النبوة كانت الكلمات في قمة بركتها، انظر في قول أبى بكر الصديق- رضى الله عنه:" أتقتلون رجلاً أن يقول ربى الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم" وذلك لما اجتمعت قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذونه. وقوله لعمر – رضى الله عنه – يوم الحديبية: "الزم غرزه فإنه على الحق". وكان عمر قد تساءل: أو لسنا على الحق، أوليس رسول الله حقاً". وقوله صبيحة الإسراء والمعراج: "إن كان قال فقد صدق، فوالله إني لأصدقه في أكثر من ذلك، أصدقه في خبر السماء".
ويوم الهجرة كان يتذكر الرصد فيتقدم أمام النبي صلى الله عليه و سلم فإذا تذكر الطلب و تحول خلفه،، يسير تارة عن يمينه، وتارة عن شماله، ويقول: "إن أهلك أهلك وحدي، وإن تهلك تهلك معك الدعوة".
ويأتي من بعده عمر رضى الله عنه يقول: "إني لا أعد للحادث الذي يحدث سوى طاعة الله ورسوله، هذا هو الذي بلغنا به ما بلغنا". وقال لأبى عبيدة – رضى الله عنه -: "إنّا كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين فمهما نطلب العز في غيره أذلنا الله".
وكان أبو عبيدة – رضى الله عنه- يسير وسط الجيش و يقول: "رب مبيض لثوبه مدنس لدينه، رب مكرم لنفسه وهو لها مهين، بادروا السيئات القديمات بالحسنات الحديثات".
وقال أبو الدرداء رضى الله عنه: "أدركنا الناس ورقاً لا شوك فيه، فصاروا شوكاً لا ورق فيه". وكان إذا رأى جنازة يقول: "اغدوا فإنا راحون، وروحوا فإنا غادون، موعظة بليغة وغفلة سريعة، يروح الأول ولا يعتبر الآخر".
مواقف هادية، وكلمات من نور، قتل مصعب يوم أحد بعد ما قطعت يداه وهو يقرأ قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران:144)
ونفس الأمر بالنسبة لخبيب بن عدى عندما أخذه المشركون لقتله، سألهم المهلة حتى يصلي لله ركعتين، لم يطلب شيئا يأكله ولا أن يرى زوجة أو ولداً، وإنما كانت أمنيته في هذه اللحظات أن يبعث بسلامه لرسول الله صلى الله عليه و سلم، قال: اللهم إني لا أرى إلا وجه عدو، ولم أر أحداً يقرئ رسولك مني السلام، فأقرئه مني السلام، ثم وقع خبيب صريعاً وهو يردد:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً .. … .. على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ .. … .. يـبـارك على أوصـال شـلو ممـزع
بركة في كل شيء
وهكذا لو تتبعت حياة هؤلاء الأفاضل لوجدت بركة واضحة في كلامهم وفي كل شئ، وهذه البركة من الله، ولا تطلب إلا بطاعته سبحانه، فيبارك إن شاء في المكان والزمان والقول والفعل.. وقد وردت الآيات تصف بعض الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأشياء بالبركة ومن ذلك قوله تعالى: )إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ( "آل عمران:69"، وقال عن نبيه عيسى عليه السلام: )وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنت( "مريم:30" وقال: )وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا( "ق:9"، وقال سبحانه عن كتابه ) وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ( "الأنعام:155" وقال )وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ( "الأنبياء:50"… والنصوص في هذا المعنى كثيرة.
أسباب تحصيل البركة
لا شك أن طاعة الله هي أول تلك الأسباب فبها يكون حلول النماء والزيادة والبركة، ومن جملة ذلك بر الوالدين و صلة الأرحام" فمن أراد أن ينسأ له في عمره ويبارك له في رزقه فليصل رحمه"، والمعصية ضد ذلك و"إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه".
كما وأن الدعاء من أعظم أسباب حلول البركات ولذا كثر ذكرها في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ففي دعاء القنوت الذي علمه لسبطه الحسن: "وبارك لي فيما أعطيت"، وفي دعاء الاستخارة يقول: "اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي ويسره لى ثم بارك لى فيه"، ويقال للزوج عقب عقد النكاح: "بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير"، وإذا فرغ من طعامه قال: "اللهم بارك لنا فيه وأعطنا خيراً منه" وإذا شرب لبناً قال " اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه " وإذا رأى من نفسه أو ولده أو ماله أو غير ذلك شيئاً فأعجبه، وخاف أن يصيبه بعينه، أو يتضرر بذلك قال " اللهم بارك فيه ولا تضره"….. والأدعية كثيرة في هذا المعنى.
وإذا كانت البركة من الله، فلا يجوز طلبها من المقبورين، كما لا يجوز التبرك بالأشجار والأحجار إلا الحجر الأسود، وقد كان الصحابة يتبركون بفضل وضوء النبي صلى الله عليه و سلم وطيبه و نحو ذلك.
والناظر سيجد أن البركة تتناقص من جيل إلى جيل.. ففي أحاديث أمارات الساعة "يتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر ويكون الشهر كالجمعة وتكون الجمعة كاليوم ويكون اليوم كالساعة وتكون الساعة كاحتراق السعفة" رواه أحمد والترمذى وقال ابن كثير: إسناده على شرط مسلم.
وفي الحديث الذي رواه البخاري: "لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان"..
فإذا كنا نعاني من قلة البركة في الأقوال والأفعال، فهذا الأمر يحكي لنا التناسب الواضح بين حالة الكون من حولنا وبين ما نحن عليه من قلة التقوى، وقد بين النبي صلي الله عليه وسلم أن هذه البركة المنزوعة ترد قرب قيام الساعة، وذلك بعد إهلاك الدجال و يأجوج و مأجوج ببركة دعاء المسيح عليه السلام . قال صلي الله عليه وسلم " ثم يرسل الله مطرًا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة ثم يقال للأرض انبتي ثمرتك وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة …… " الحديث رواه الجماعة . فاللهم بارك لنا في أقوالنا وأفعالنا وبارك لنا فيما رزقتنا وقنا عذاب النار.
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وجزاك الله خيـــــــــر ,,
الله يديك العافيه
وينور عليك
لحظه الم
والله يرضا عليك