…
إنما ط§ظ„ط£ط¹ظ…ط§ظ„ بالنيّات
إنما ط§ظ„ط£ط¹ظ…ط§ظ„ بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه". رواه إماما المحدثين: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري وأبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري في صحيحيهما اللذين هما أصح الكتب المصنفة.
………………………………………….. …………………………..
هذا حديث صحيح متفق على صحته وعظيم موقعه وجلالته وكثرة فوائده رواه الإمام أبو عبد الله البخاري في غير موضع من كتابه، ورواه أبو الحسين مسلم بن الحجاج في آخر كتاب الجهاد، وهو أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، قال الإمام أحمد والشافعي رحمهما الله: "يدخل في حديث ط§ظ„ط£ط¹ظ…ط§ظ„ بالنيات ثلث العلم" قاله البيهقي، وغيره. وسبب ذلك أن كسب العبد يكون بقلبه ولسانه وجوارحه والنية أحد الأقسام الثلاثة. 1 – عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يقول: "
وروى عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أن قال: يدخل هذا الحديث في سبعين باباً من الفقه، وقال جماعة من العلماء: هذا الحديث ثلث الإسلام1.
واستحب العلماء أن تستفتح المصنفات بهذا الحديث، وممن ابتدأ به في أول كتابه: الإمام أبو عبد الله البخاري. وقال عبد الرحمن ابن مهدي: ينبغي لكل من صنف كتاباً أن يبتدئ فيه بهذا الحديث تنبيهاً للطالب على تصحيح النية.
وهذا حديث مشهور بالنسبة إلى آخره غريب بالنسبة إلى أوله لأنه لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولم يروه عن عمر إلا علقمة بن أبي وقاص ولم يروه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي ولم يروه عن محمد بن إبراهيم إلا يحيى بن سعيد الأنصاري ثم اشتهر بعد ذلك فرواه عنه أكثر من مائتي إنسان أكثرهم أئمة.
ولفظة: "إنما" للحصر: تثبت المذكور وتنفي ما عداه وهي تارة تقتضي الحصر المطلق وتارة تقتضي حصراً مخصوصاً ويفهم ذلك بالقرائن كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} 2. فظاهره الحصر في النذارة والرسول لا ينحصر في ذلك بل له أوصاف كثيرة جميلة: كالبشارة وغيرها وكذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} 3.
ـــــــ
1 قال أبو داود: نظرت في الحديث المسند، فإذا هو أربعة آلاف حديث ثم نظرت فإذا مدار أربعة آلاف حديث على أربعة أحاديث: حديث النعمان بن بشير: "الحلال بيّنٌ والحرام بيّنٌ" وحديث عمر هذا، وحديث أبي هريرة: "إنّ الله طيّب" وحديث أبي هريرة أيضاً: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، قال: فكل حديث من هذه الأربعة ربع العلم.
2 سورة الرعد: الآية 7.
3 سورة محمد: الآية 36.
فظاهره والله أعلم الحصر باعتبار من آثرها وأما بالنسبة إلى ما في نفس الأمر فقد تكون سبباً إلى الخيرات ويكون ذلك من باب التغليب فإذا وردت هذه اللفظة فاعتبرها فإن دل السياق والمقصود من الكلام الحصر في شيءٍ مخصوص: فقل به وإلا فاحمل الحصر على الإطلاق ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما ط§ظ„ط£ط¹ظ…ط§ظ„ بالنيات" والمراد بالأعمال: ط§ظ„ط£ط¹ظ…ط§ظ„ الشرعية. ومعناه: لا يعتد بالأعمال بدون النية مثل الوضوء والغسل والتيمم وكذلك الصلاة والزكاة والصوم والحج والاعتكاف وسائر العبادات، فأما إزالة النجاسة فلا تحتاج إلى نية لأنها من باب الترك والترك لا يحتاج إلى نية، وذهب جماعة إلى صحة الوضوء والغسل بغير نية.
وفي قوله: "إنما ط§ظ„ط£ط¹ظ…ط§ظ„ بالنيات" محذوف واختلف العلماء في تقديره: فالذين اشترطوا النية قدروا: صحة ط§ظ„ط£ط¹ظ…ط§ظ„ بالنيات، والذين لم يشترطوها قدروا: كمال ط§ظ„ط£ط¹ظ…ط§ظ„ بالنيات.
وقوله: "وإنما لكل امرئ ما نوى" قال الخطابي يفيد معنىً خاصاً غير الأول وهو تعيين العمل بالنية، وقال الشيخ محي الدين النووي: فائدة ذكره أن تعيين المنوي شرط فلو كان على إنسان صلاة مقضية لا يكفيه أن ينوي الصلاة الفائتة بل يشترط أن ينوي كونها ظهراً أو عصراً أو غيرهما، ولو لا اللفظ الثاني لاقتضى الأول صحة النية بلا تعيين أو أوهم ذلك والله أعلم.
وقوله: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله" المتقرر عند أهل العربية: أن الشرط والجزاء والمبتدأ والخبر لا بد أن يتغايرا وههنا قد وقع الاتحاد وجوابه "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله" نية وقصداً "فهجرته إلى الله ورسوله" حكماً وشرعاً.
وهذا الحديث ورد على سبب لأنهم نقلوا: أن رجلاً هاجر من مكة إلى المدينة ليتزوج امرأة يقال لها: أم قيس، لا يريد بذلك فضيلة الهجرة فكان يقال له: مهاجر أم قيس. والله أعلم.
…
بيان الإسلام والإيمان والإحسان
2 – عن عمر رضي الله تعالى عنه أيضا قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً"، قال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"، قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك". قال: فأخبرني عن الساعة. قال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل". قال: فأخبرني عن أماراتها. قال: "أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان", ثم انطلق فلبثت مليا، ثم قال: "يا عمر، أتدري من السائل؟", قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" رواه مسلم.
هذا حديث عظيم قد اشتمل على جميع وظائف الأعمال الظاهرة والباطنة، وعلوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه لما تضمنه من جمعه علم السنة فهو كالأم للسنة كما سميت الفاتحة: أم القرآن لما تضمنته من جمعها معاني القرآن.
وفيه دليل على تحسين الثياب والهيئة والنظافة عند الدخول على العلماء والفضلاء والملوك فإن جبريل أتى معلما للناس بحاله ومقاله.
قوله: "لا يُرى عليه أثر السفر" المشهور ضم الياء من "يُرى" مبنيا لما لم يسم فاعله ورواه بعضهم بالنون المفتوحة وكلاهما صحيح.
قوله: "ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد" هكذا هو المشهور الصحيح ورواه النسائي بمعناه وقال "فوضع يده على ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم" فارتفع الاحتمال الذي في لفظ كتاب مسلم فإنه قال فيه: "فوضع كفيه على فخذيه" وهو محتمل.
وقد استفيد من هذا الحديث: أن الإسلام والإيمان حقيقتان متباينتان لغة وشرعاً وهذا هو الأصل في الأسماء المختلفة وقد يتوسع فيهما الشرع فيطلق أحدهما على الآخر على سبيل التجوز.
قوله: "فعجبنا له يسأله ويصدقه" إنما تعجبوا من ذلك لأن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف إلى من جهته وليس هذا السائل ممن عرف بلقاء النبي صلى الله عليه وسلم ولا بالسماع منه ثم هو قد سأل سؤال عارف محقق مصدق فتعجبوا من ذلك.
قوله: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه" الإيمان بالله: هو التصديق بأنه سبحانه موجود موصوف بصفات الجلال والكمال منزه عن صفات النقص وأنه واحد حق صمد فرد خالق جميع المخلوقات متصرف فيما
يشاء يفعل في ملكه ما يريد.
والإيمان بالملائكة: هو التصديق بأنهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.
والإيمان برسل الله: هو [التصديق]1 أنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله تعالى أيدهم بالمعجزات الدالة على صدقهم وأنهم بلغوا عن الله رسالاته وبينوا للمكلفين ما أمرهم الله به وأنه بجب احترامهم وأن لا يفرق بين أحد منهم.
والإيمان باليوم الآخر: هو التصديق بيوم القيامة وما اشتمل عليه من الإعادة بعد الموت والحشر والنشر والحساب والميزان والصراط والجنة والنار وأنهما دار ثوابه وجزائه للمحسنين والمسيئين إلى غير ذلك مما صح من النقل.
والإيمان بالقدر: هو التصديق بما تقدم ذكره2 وحاصله ما دل عليه قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 3. وقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 4 ونحو ذلك. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس: "واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك
ـــــــ
1 زيادة على الأصل لضبط المعنى.
2 في الكلام نقص ظاهر، والإيمان بالقدر، هو التصديق بما تقدم في عيب الغيب إحصاؤه وتقدير المشار إليه بقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}. وأيضاً ترك الكلام على لفظ "كتبه" ولا أدري لماذا؟ هل النسخة مبتورة أم لوضوح ذلك؟
3 سورة الصافات: الآية 96.
4 سورة القمر: الآية 49.
إلاّ بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف" 1.
ومذهب السلف وأئمة الخلف: أن من صدق بهذه الأمور تصديقاً جازماً لا ريب فيه ولا تردد: كان مؤمنا حقا سواء كان ذلك عن براهين قاطعة أو عن اعتقادات جازمة.
وقوله في الإحسان: "أن تعبد الله كأنك تراه" الخ حاصله راجع إلى إتقان العبادات ومراعاة حقوق الله ومراقبته واستحضار عظمته وجلالته حال العبادات.
قوله: "فأخبرني عن أماراتها" بفتح الهمزة، والأمارة: العلامة و "الأمة" ههنا الجارية المستولدة و "ربتها" سيدتها وجاء في رواية "بعلها"، وقد رُوي أن أعرابياً سئل عن هذه الناقة قال: أنا بعلها ويسمى الزوج بعلاً، وهو في الحديث "ربتها" بالتأنيث. واختلف في قوله "أن تلد الأمة ربتها" فقيل: المراد به أن يستولي المسلمون على بلاد الكفر فيكثر التسري فيكون ولد الأمة من سيدها بمنزلة سيدها لشرفه بأبيه وعلى هذا فالذي يكون من أشراط الساعة استيلاء المسلمين على المشركين وكثرة الفتوح والتسري، وقيل: معناه أن تفسد أحوال الناس حتى يبيع السادة أمهات أولادهم ويكثر ترددهن في أيدي المشترين فربما اشتراها ولدها ولا يشعر بذلك فعلى هذا الذي يكون من أشراط الساعة: غلبة الجهل بتحريم بيعهن2، وقيل معناه: أن يكثر العقوق في الأولاد فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته: من الإهانة والسب.
ـــــــ
1 رواه الترمذي في صفة القيامة باب 59 حديث رقم 2516، عن ابن عباس قال: "كنت خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال لي: "يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك"، الحديث". وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح ويأتي في أحاديث المتن برقم: 19.
2 بيع أمهات الأولاد مختلف فيه اختلافاً كثيراً، فأجازه علي، وابن عباس وغيرهما، ومنع منه عمر وكثير من الصحابة، انظر تفصيل ذلك في كتاب"نيل الأوطار للشوكاني باب ما جاء في التفريق بين ذوي ال. ج 5 صفحة 161".
و"العالة" بتخفيف اللام: جمع عائل: وهو الفقير.
وفي الحديث كراهة ما لا تدعو الحاجة إليه من تطويل البناء وتشييده وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يؤجر ابن آدم في كل شيء إلا ما وضعه في هذا التراب" 1. ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يضع حجراً على حجر ولا لبنة على لبنة: أي لم يشيد بناءه ولا طوله ولا تأنق فيه.
وقوله: "رعاء الشاءِ" إنما خص رعاء الشاء بالذكر لأنهم أضعف أهل البادية معناه أنهم من ضعفهم وبعدهم عن أسباب ذلك بخلاف أهل الإبل فإنهم في الغالب ليسوا عالة ولا فقراء.
وقوله "فلبثُ ملياً" قد روي بالتاء يعني لبث عمر رضي الله عنه وروي "فلبث" بغير تاء يعني: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بعد انصرافه وكلاهما صحيح المعنى، وقوله: "مليا" هو بتشديد الياء أي زماناً كثيراً وكان ذلك ثلاثاً هكذا جاء مبيناً في رواية أبي داود وغير.
وقوله: "أتاكم يعلمكن دينكم" أي قواعد دينكم أو كليات دينكم قاله الشيخ محي الدين في شرحه لهذا الحديث في صحيح مسلم.
أهم ما يذكر في هذا الحديث بيان الإسلام والإيمان والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدرة الله تعالى وذكر في بيان الإسلام والإيمان كلاماً طويلاً وحكى فيه أقوال جماعة من العلماء، منها ما حكاه عن
ـــــــ
1 رواه الترمذي في صفة القيامة باب 40 حديث رقم 2483، عن حارثة بن مضرَّب بلفظ: "يؤجرُ الرجل في نفقته كلّها إلا التراب" – أو قال: – "في البناء" قال أبو عيسى هذا حديث صحيح.
لإمام أبي الحسين المعروف بابن بطال المالكي، أنه قال: مذهب جماعة أهل السنة من سلف الأمة وخلفها: أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص بدليل قوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} 1. ونحوها من الآيات. قال بعض العلماء: نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص، والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة ثمراته وهي الأعمال ونقصانها، قالوا: وفي هذا توفيق بين ظواهر النصوص التي جاءت بالزيادة وبين أصل وضعه في اللغة وهذا الذي قاله هؤلاء وإن كان ظاهراً فالأظهر والله أعلم أن التصديق يزيد بكثرة النظر لظاهر الأدلة ولهذا يكون إيمان المصدقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا يغريهم السفه ولا يتزلزل إيمانهم بعارض بل لا تزال قلوبهم منشرحة منيرة وإن اختلفت عليهم الأحوال فأما غيرهم من المؤلفة ومن قاربهم فليسوا كذلك وهذا لا يمكن إنكاره ولا يشك في نفس تصديق أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن لا يساويه آحاد تصديق الناس، ولهذا قال البخاري في صحيحه قال ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين [رجلاً]2 من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل عليهم السلام"3. وأما إطلاق اسم الإيمان على الأعمال فمتفق عليه عند أهل الحق ودلائله أكثر من أن تحصر قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} 4. أي صلاتكم. وحكي عن الشيخ أبي عمرو بن الصلاح في قوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم
ـــــــ
1 سورة الفتح: الآية 4.
2 زيادة من أصل الحديث في فتح الباري شرح البخاري.
3 رواه البخاري في الإيمان باب خوف المؤمن أن يحبط عمله صفحة 109.
4 سورة البقرة: الآية 143.
الصلاة…" إلى آخره ثم فسر الإيمان بقوله: "أن تؤمن بالله تعالى وملائكته…" إلى آخره، قال رحمه الله: هذا بيان أصل الإيمان، وهو التصديق الباطن، وبيان أصل الإسلام وهو الاستسلام والانقياد الظاهر وحكم الإسلام في الظاهر ثبت في الشهادتين، وإنما أضاف إليها الصلاة والزكاة والصوم والحج، لكونها أظهر شعائر الإسلام وأعظمها. وبقيامه بها يصح إسلامه.
ثم إن اسم الإيمان يتناول ما فسر به الإسلام في هذا الحديث وسائر الطاعات لكونها ثمرات التصديق الباطن الذي هو أصل الإيمان ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة أو ترك فريضة لأن اسم الشيء مطلقا يقع على الكامل منه ولا يستعمل في الناقص ظاهرا إلا بنية وكذلك جاز إطلاق نفيه عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن" 1.
واسم الإسلام يتناول أيضاً ما هو أصل الإيمان وهو التصديق الباطن ويتناول أصل الطاعات فإن ذلك كله استسلام قال: فخرج بما ذكرناه أن الإيمان والإسلام يجتمعان ويفترقان وأن كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا وقال: فهذا التحقيق واف بالتوفيق ونصوص الكتابة والسنة الواردة في الإيمان والإسلام التي طالما غلط فيها الخائضون وما حققناه من ذلك موافق لمذهب جماهير العلماء من أهل الحديث وغيرهم والله أعلم.
ـــــــ
1 رواه البخاري في المظالم باب النهبى بغير إذن صاحبه
قال ابن عباس في تفسيره: "ينزع منه الإيمان، لأن الإيمان نَزِهٌ، فإذا أذنب العبد فارقه، فإذا نزع عاد إليه هكذا –وشبك بين أصابعه، ثم فرّقها-".
3 – عن أبي عبد الرحمن – عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان". رواه البخاري ومسلم.
…………………………….
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله تعالى: يعني أن هذه الخمس أساس دين الإسلام وقواعده التي عليها بني وبها يقوم وإنما خص هذه بالذكر ولم يذكر معها الجهاد مع أنه يظهر الدين ويقمع عناد الكافرين لأن هذه الخمس فرض دائم والجهاد من فروض الكفايات وقد يسقط في بعض الأوقات.
وقد وقع في بعض الروايات في هذا الحديث تقديم الحج على الصوم وهو وهم، والله أعلم. لأن ابن عمر لما سمع المستعيد1 يقدّم الحج على الصوم زجره ونهاه عن ذلك وقد قدم الصوم على الحج وقال: "هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ـــــــ
1 يعني الذي أعاد رواية الحديث.
وفي رواية لابن عمر: "بني الإسلام على أن تعبد الله وتكفر بما سواه وإقام الصلاة" 1 إلى آخره، وفي رواية أخرى: "أن رجلاً قال لعبد الله بن عمر: ألا نغزو. فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الإسلام بني على خمس" ووقع في بعض الطرق: "على خمسة" بالهاء وفي بعضها بلا هاء وكلاهما صحيح.
وهذا الحديث أصل عظيم في معرفة الدين وعليه اعتماده فإنه قد جمع أركانه.
ـــــــ
1 رواه البخاري في الإيمان باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس"
الأعمال بخواتيمها
…
الأعمال بخواتيمها
4 – عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد. فو الله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" رواه البخاري ومسلم.
………………………………………….. ………….
قوله: "وهو الصادق المصدوق" أي الصادق في قوله المصدوق فيما يأتيه من الوحي الكريم.
قال بعض العلماء: معنى قوله: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه" أن المني يقع في الرحم متفرقا فيجمعه الله تعالى في محل الولادة من الرحم في هذه المدة، وقد جاء عن ابن مسعود في تفسير ذلك "إن
النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد الله تعالى أن يخلق منها بشراً طارت في بشر المرأة تحت كل ظفر وشعر ثم تمكث أربعين ليلة ثم تصير دماً في الرحم فذلك جمعها وهو وقت كونها علقة"1.
قوله: "ثم يرسل إليها الملك" يعني الملك الموكل بالرحم.
قوله: "وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة" إلى آخره ظاهر الحديث أن هذا العامل كان عمله صحيحاً وأنه قرب من الجنة بسبب عمله حتى بقي له على دخولها ذراع وإنما منعه من ذلك سابق القدر الذي يظهر عند الخاتمة فإذاً الأعمال بالسوابق لكن لما كانت السابقة مستورة عنا والخاتمة ظاهرة جاء في الحديث: "إنما الأعمال بالخواتيم" 2 يعني عندنا بالنسبة إلى اطلاعنا في معنى الأشخاص وفي بعض الأحوال، وأما الحديث الذي ذكره مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار" فإنه لم يكن عمله صحيحاً في نفسه وإنما كان رياء وسمعة فيستفاد من ذلك الحديث ترك الالتفات إلى الأعمال والركون إليها والتعويل على كرم الله تعالى ورحمته.
وقوله قبل ذلك: "ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله". هو بالباء الموحدة في أوله على البدل من "أربع كلمات".
وقوله: "شقي أو سعيد" مرفوع لأنه خبرٌ مبتدأ محذوف تقديره: وهو شقي أو سعيد.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة"
ـــــــ
1 أخرجه ابن أبي حاتم.
2 رواه البخاري
إلى قوله: "فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها" المراد: أن هذا قد يقع في نادر من الناس لا أنه غالب فيهم وذلك من لطف الله سبحانه وسعة رحمته فإن انقلاب الناس من الشر إلى الخير كثير، وأما انقلابهم من الخير إلى الشر ففي غاية الندور ولله الحمد والمنة على ذلك، وهو تجوز، وقوله: "إن رحمتي سبقت غضبي" وفي رواية "تغلب غضبي".
وفي هذا الحديث إثبات القدر كما هو مذهب أهل السنة وأن جميع الواقعات بقضاء الله تعالى وقدره خيرها وشرها نفعها وضرها قال الله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} 1. ولا اعتراض عليه في ملكه يفعل في ملكه ما يشاء. قال الإمام السمعاني: سبيل معرفة هذا الباب: التوفيق من الكتابة والسنة دون محض القياس ومجرد العقول فمن عدل عن التوفيق منه ضل وتاه في مجال الحيرة ولم يبلغ شفاء النفس ولا يصل إلى ما يطمئن به القلب لأن القدر سر من أسرار الله تعالى ضربت دونه الأستار واختص سبحانه به وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم، وقد حجب الله تعالى علم القدر عن العالم فلا يعلمه ملك ولا نبي مرسل، وقيل إن سر القدر ينكشف لهم إذا دخلوا الجنة ولا ينكشف قبل ذلك.
وقد ثبتت الأحاديث بالنهي عن ترك العمل اتكالاً على ما سبق من القدر بل تجب الأعمال والتكاليف التي ورد بها الشرع وكل ميسر لما خلق له لا يقدر على غيره فمن كان من أهل السعادة يسره الله لعمل أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة يسره الله لعمل أهل الشقاوة كما في الحديث وقال الله تعالى: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى … فَسَنُيَسِّرُهُ
ـــــــ
1 سورة الأنبياء: الآية 23
لِلْعُسْرَى)1.
قال العلماء: وكتاب الله تعالى ولوحه وقلمه كل ذلك مما يجب الإيمان به، وأما كيفية ذلك وصفته فعلمه إلى الله تعالى لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء. والله أعلم
ـــــــ
1 سورة الليل: الآية 7 – 10.